الأحد، 19 مايو 2013

بجسدها النحيل وبشرتها الحنطية، (ن.س) -27 عاما- جلست مع رفقة "زوجها الشرعي" وطفلهما الصغير في غرفة أحد القضاة في محكمة بداية غزة لتداول قضيتها في جلسة سرية، فقد كانت طوال الوقت تحاول لملمة عباءتها السوداء ومواراة وجهها عن الموجودين.

وقالت (ن.س) بكلمات مقتضبة مصحوبة بتأتأة: "ندمانة يا سيدي القاضي (...) خدعني بكلامه المعسول، فلم أر أمامي سواه حتى وقعت المصيبة"، مشيرة إلى أنها كانت تتعرض للضرب حتى تلبي طلباته.

ورغم أن كلماتها كانت مقتضبة فإن زوجها فضل ألا ينصت إلى حكايتها وأشغل نفسه بتهدئة الطفل كأن القضية لا تعنيه.

وكيل النيابة طالب بدوره لجنة القضاة بتوقيع أقصى العقوبات بحق المدانة لأن التهم الموجهة إليها تمس الآداب العامة وحياء المجتمع الفلسطيني المحافظ، وكذلك لتخليها عن طفلها الذي نتج عن علاقة غير شرعية.

بعد الاستماع إلى مرافعة النيابة وأقوال المتهمة ومحاميها الذي أكد أن موكلته أصبحت الآن سيدة متزوجة ومحافظة على بيتها وملتزمة بأخلاقها، أمرت المحكمة بحكمها سنة مع وقف التنفيذ.

طفل لقيط

وتعود تفاصيل القضية السابقة إلى ثلاث سنوات حين كانت (ن.س) طالبة تتردد على جامعتها مع سائق أجرة أقامت علاقة عاطفية معه ترتب إثرها علاقة غير شرعية، فقد أبدى لها بعد شهر واحد من معرفتهما إعجابه بها لكنها طالبته بالذهاب إلى بيت أهلها لخطبتها.

ولم يخيب الشاب ظن فتاته به فأرسل ذويه إلى بيت أهلها لطلب يدها لكن طلبه قوبل بالرفض لأسباب تعود إلى الأصول الاجتماعية المعقدة.

لم تيأس الفتاة أو الشاب فحاولا مرارا لكن الرفض كان سيد الموقف إلى أن تسللت فكرة شريرة إلى رأس الشاب وطالبها بإقامة علاقة غير شرعية للضغط على ذويها للموافقة عليه زوجا لابنتهم، فلم تخيب أمله وذهبت معه برفقة أهوائه حيث يريد.

وخلال مدة العلاقة غير الشرعية عاشت الفتاة حالة من التوتر لإدراكها أن ما تفعله حرام شرعا لكنها استمرت فيه وسط الضرب الذي كانت تتعرض له على يد الشاب إلى أن هربت منه بعد آخر لقاء جمعهما بالحرام، فقررت وقتئذ الابتعاد عنه.

بعد شهر من انتهاء علاقتها بالشاب تقدم إلى خطبتها ابن عمها فوافقت عليه بعدما ذهبت إلى الطبيبة وتأكدت من عذريتها، وحينئذ ارتاح بالها ظنا منها أن علاقتها السابقة انتهت ولا آثار لها.

وخلال خطوبتها شعرت الفتاة بألم في بطنها فذهبت برفقة أمها إلى الطبيب الذي أكد لها حملها، فأصيبت الفتاة بصدمة واعترفت لوالدتها بعلاقتها السابقة.

بعد توسلات كثيرة وافقت الممرضة على طلب الأم بالستر على ابنتها وإخبار من يسأل عن بطن ابنتها بأن هناك "كيس ماء" ستتخلص منه بعملية جراحية خلال شهرين.

وعندما حان موعد الولادة ذهبت إلى المستشفى وولدها الطبيب قيصريا بعد أن أقنعته الممرضة بأن شابا اعتدى على الفتاة ونتج الحمل رغم المحافظة على عذريتها.

عقب ساعة من العملية جاء إلى الحياة طفل بصحة جيدة لفظته أمه بعيدا عن عينيها بحجة أنها لا تريد التعلق فيه في حال أرضعته أو قبلته، وحينئذ أخذته الممرضة إلى "مبرة الرحمة" وادعت أنها وجدته في "كرتونة" أمام أحد مساجد منطقتها، ثم راحت تروي قصتها المزيفة إلى الشرطة التي كشفت كذبها وحولتها إلى التحقيق مع الفتاة وأمها.

تلك التفاصيل لم تخف كثيرا عن خطيب الفتاة الذي علم الأمر وتقبله بعد صدمته للحفاظ على ابنة عمه خشية قتلها على يد عائلتها تحت مسمى "القتل على خلفية شرف"، فهو سارع بالزواج منها بعد شهرين من ولادتها وأنجب منها طفلا آخر.

قد يظن من يتابع سطور قضيتنا أنه في فيلم سينمائي، ولكن هذا الواقع المرير نتج عنه طفل لا ذنب له بأن يكون "لقيطا" لأم تخلت عنه وأب هرب إلى إحدى الدول المجاورة لرفضه الاعتراف بطفله.

غير شاذة نفسيا

بعد التقليب في ملف القضية قابلت "الرسالة" رئيس محكمة بداية غزة ضياء الدين المدهون الذي اعتبر أن الحكم جاء بعد أن أظهرت الفتاة علامات الالتزام والندم، موضحا أن المحكمة أخذت في عين الاعتبار عند إصدارها الحكم أن الشاب كان قد وعد الضحية بالزواج وهرب بعد فعلته من البلد، "بالإضافة إلى أنها تزوجت ابن عمها بعد مدة قصيرة من الوضع وأنجبت منه طفلا شرعيا".

ولفت إلى أن المحكمة نظرت إلى القضية من الناحية الاجتماعية أيضا عند الحكم، معتبرا حكمها رادعا رغم أنه لم يقع.

ووفق قول القاضي فإن القانون منح المحكمة النزول بالعقوبة إلى أدنى مستوياتها من حيث توقيف العقوبة أو سريانها، موضحا أنها اقتنعت بحسن سلوك المتهمة.

أما عن الشاب المدان فذكر القاضي المدهون أن وضعه كان مختلفا، "فهو ارتكب جريمته مع سبق الإصرار ونتج عنها طفل غير شرعي ثم هرب من العقاب، لذلك فإن المحكمة لن تدينه في غيابه إلا إذا اتخذت الإجراءات القانونية التي تثبت إدانته".

وفيما يتعلق بالطفل أوضح أن المحكمة لا تستطيع رد أي اعتبار له لهرب والده وتزوج والدته من رجل آخر.

وتعليقا على ملف القضية من الناحية النفسية يرى الاختصاصي إسماعيل أبو ركاب أن السيدة لا تعتبر شاذة نفسيا لتخليها عن ابنها غير الشرعي، "فهي وقعت تحت ضغط نفسي مترتب على ثقافة مجتمعها"، مشيرا إلى أن تلك السيدة أقلمت عواطفها ومشاعرها بالابتعاد عن طفلها لأنه مصدر قلق وعار لها في المستقبل.

أما عن الوضع النفسي للطفل اللقيط فذكر أنه لن يكون كبقية أقرانه، "فهو عندما يصل إلى عمر معين ستتطور شخصيته وستصبح عدائية مصحوبة بالاكتئاب والقلق".

ووفق الاختصاصي النفسي فإن من يمارس السلوكيات السلبية للضغط على ذويه هم أبناء لديهم انحراف فكري وسلوكي.

وحول موقف الشريعة الإسلامية أكد الداعية د. ماهر الحولي أن الشريعة وضعت مجموعة من الضوابط للحفاظ على العفاف والحياء بين الشاب والفتاة، معتبرا ما فعلته الفتاة علاقة محرمة عقوبتها الجلد باعتبارها غير متزوجة آنذاك، ولافتا إلى أن الاسلام أباح العقوبة البديلة التي يراها القضاء بما يتناسب وطبيعة المجتمع والقضية.

ورفض الحولي فكرة الأهالي التي تتنافر مع رأي الاسلام بمنع الموافقة على الزواج من مبدأ عن توافق الأصول الاجتماعية للزوجين.

واعتبر إيداع الطفل غير الشرعي في ملجأ خاص خطوة جيدة، "ولاسيما أنها جعلت والدي الطفل غير الشرعيين معروفين، وما ينقصه سوى إثبات قضية النسب"، ناصحا الأهالي بحسن تربية أبنائهم ومتابعتهم "باستشعارهم قول الرسول الكريم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق